في كتاب طرائف النساء المُعد من قبل الدكتور مفيد محمد قمحية، قصة طريفة
ومدهشة عن المرأة البرمكية، التي تحدّثت مع هارون الرشيد وأذهلته
ببلاغتها وحسن تصرّفها واحترافها لعلم الكلام، الذي لا يتقنه إلا القلّة
من الناس في عصرنا الحاضر، حيث قيل:
دخلت المرأة البرمكية على هارون الرشيد وعنده جماعة من وجوه أصحابه،
فقالت له: يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وفرّحك بما أتاك وأتمّ سعدك،
لقد حكمت فقسطت.
فقال لها الرشيد: من تكونين أيتها المرأة؟
فقالت: أنا من آل برمك، ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم.
فرد هارون الرشيد: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفّذ فيهم قدره،
وأما المال فمردود إليك.
ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فسألهم: أتدرون ما قالت المرأة البرمكية؟
فقالوا: ما نراها قالت إلا خيراً؟!
فقال الرشيد لأصحابه وقد كان معهودٌ عنه البلاغة: ما أظنكم فهمتهم
مقصدها، فأما قولها أقرّ الله عينك، أي أسكنها عن الحركة، واذا سكنت
العين عن الحركة عميت.
وأما قولها فرّحك بما أتاك، فأخذته من قوله تعالى: «حتى اذا فرحوا بما
أوتوا أخذناهم بغتة».
وأما قولها: وأتم الله سعدك، فأخذته من قول الشاعر: (من المتقارب)
اذا تمّ شيئاً بدا نقصه ترقّب زوالاً إذا قيل تم
وفي قولها: لقد حكمت فقسطت، فأخذته من قول الله تعالى: «وأما القاسطون
فكانوا لجهنّم حطبا».
فتعجّب أصحاب الخليفة العباسي هارون الرشيد من بلاغة المرأة البرمكية
وعلم كلامها الغزير، فلقد كانت تدعو عليه بدل الدعاء له من دون أن يلاحظ
فقهاء القوم وأبلغهم.
وأما العجب الأكبر فكان حنكة هارون الرشيد، وذكائه في فهم مقصد المرأة
البرمكية ومطلبها، حيث كان حذراً جداً معها وفهم بالضبط ما كانت ترمي
إليه.
ولكن في هذه الأيام فقد الناس علم الكلام وفنّه، في التعامل مع الآخرين
أو التلميح لمقصد ما، أو حتى من باب البلاغة نفسها واستخدام الكلمات
بمعنى آخر أو بطريقة مبهمة.
فعلم الكلام لا نستطيع الحصول عليه في يوم وليلة، بل هو تأثير كثير من
العوامل التي تساعد في إيجاد الكلمات الصحيحة والمعبّرة وذات البعد في
الأوقات المناسبة كما فعلت المرأة البرمكية